تعـلم قـول ( لا )
أول وظيفة في حياتي كانت في مدرسة ثانوية جديدة تحت التأسيس .. كانت مجرد أربع فصول تستقر في أعلى متوسطة ضخمة .. وكـنا خمس معلمين ومدير وفـراش نتقاسم جميعنا غرفة واحدة .. ولأنني أصغرهم سنا ــ ولأننا كنا في مرحلة تأسيس ونتعامل كعائلة واحدة ــ كنت أقوم طواعية بمعظم الأعمال الكتابية المرهقة .. فقد كنت أنا من يتولى شئون الغياب ومسيرات الرواتب وأوراق الطلاب وخطابات التعيين ــ بل وحتى ماكينة التصوير .. ولأنني كنت (طيب) ولا أقول (لا) تراكمت عّـلي الأعمال بالتدريج لدرجة كنت أساعد بعض المعلمين ــ بطيب خاطر ــ في تحضير دروسهم الخاصة .. لــم أكن حينها جبانا أو غبيا بـل كنت أؤمن بمبدأ المساعدة والتعاون وحقيقة أننا نتشارك نفس الغرفة (ونأكل نفس الفول والتميز فوق السطوح) ..
غير أن الموقف تغـيـر فجأة بعد أن أرسلت لنا ادارة التعليم وكيلا جديدا لا يعرفني (ولم يشاركني طبق الفول) وعاملني كمساعد شخصي . وذات يوم ــ وفيما كنت استعد لتناول الفطور مع بقية المعلمين ــ رمى على مكتبي مسيرات الرواتب (وكانت حينها تكتب يدويا) وطلب مني اعادة كتابتها من جديد .. فما كان مني إلا أن حملتها في الاتجاة المعاكس ورميتها فوق مكتبه قــائـلا : افـعـلهـا بـنـفـسـك ..
ورغم أنني قلت هذه الجملة بكل ثقة وهدوء إلا أن شيئا في داخلي كان يقول لـي "لـقـد تصرفت بطريقة خاطئة" .. وحين صعدت لتناول الفطور لم استطع كتم الخبر فـأخبرت "المدير" بما حصل .. وبدل أن يلومني أو يعاتبني ضحك وقال : "من زمان وأنا أقول متى ينفجر فهد" .. وحينها فقط أدركت كم ظلمت نفسي بعجزي عن قول ( لا ) منذ فترة طويلة .. ومن يومها توقفت عن تقديم المساعدة لمن لا يستحقها واستعمال أقوى كلمة في جميع اللغات ( لا / نـو / نــن / نخت / هـييت / فينيتو / تـدا / نيفر) ..
والعجيب أن تعلمي لكيفية استعمال هذه الكلمة أكسبني احتراما حقيقيا أكثر من الماضي ؛ فمعظمنا يعتقد أن اللطف ــ والمبادرة بتقديم المساعدة ــ كفيل بكسب ود واحترام الآخرين .. ولكن الحقيقة قد تكون عكس ذلك كون "الطيبة الدائمة" تنتهي بالاستغلال والتطاول "والمساعدة الصادقة" بالإتكالية ورمـي الأعباء ( في حين قد يتحول ليـن الجانب الى سلة غسيل يرمي فيها البعض ثيابه القذرة ) .. وفي المقابل حين تقول لا ــ بطريقة مؤدبة وابتسامة خفيفة ــ تثبت استقلاليتك وحـرية اختيارك وهو ما يكسبك احترام الآخرين فعـلا ...
... وبطبيعة الحال أتوقع منك تمييز الفرق بين المساعدة ــ كمبادرة ذاتية وعمل نبيل ــ وبين استمراءها واستغلالهـا من قبل الآخـرين ..
فــالمساعدة بطبيعتهما حالة مؤقتة تصرف فقط للمحتاجين لهـا ، ولكنها تتحول الى استغلال (واستهوان) إذا اتخذت طابع الديمومة والطلب الرسـمي .. ولأنها عمل إضافي ( لا تنال مقابله أجــرا ) يجب أن تتخذ قرارك بسرعة بـناء على ظروف الشخص المقابل ومستوى علاقتك به وخلفية تعاملـه معـك .. وفي حال لمست منه نفحة استغلال أو إتكاليـه فما عليك سوى أن تقـول لــه بــكل وضوح ( لا ؛ آسـف ، لا أستطيع مساعدتك ) .. وحين تفعل هذا لا تخشى خسارتـه ــ بل على العكس توقع منه احترامك كصديق تعاني بدورك من ضيق الوقت وتراكم الأعمال !
.... ولـكــل من يجهل استعمال هذه الكلمة المفيدة أذكــره بأنــنا ( نـحـن ) من يعـلم الآخرين طريقة معاملتنا وكيفية احـتـرامه لـنــا .. واليــوم مثل كل يـوم فرصة جــديدة كي تـقـول ( لا ) دون أن تخشى خسارة أحــد !
.
تعليقات