الأنفة أو الإباء


ولا تُذكر الأنفة، أو الإباء، عند العرب قبل الإسلام، إلّا ويُذكر معها عمرو بن كلثوم (؟- 584م أي حوالي 39 ق. ه)، سيد قبيلة تغلب، فقد كان من أعزِّ الناس نفساً، فلم يكن ليتحمل أن تُهان أمه، ولو كانت هذه الإهانة من أم ملك، لا يقل عنه ملكاً وعزاً، بل قد يبزّه في الملك والعزة، وفي رحاب ملكه وداخل قصره، وهو ملك الحيرة عمرو بن هند (554م-569م). فتذكر الروايات أن أم عمرو بن هند تفاخرت يوماً في حضور جليسات لها، بأنها أشرف نساء العرب، فهي بنت ملوك الحيرة، وزوجة ملك وأم ملك، فقالت إحدى جليساتها، والتي لم يخذلها لسانها في مثل هذه المواقف فلم تمرر مقولتها دون أن تعقِّب: «ليلى بنت المهلهل أشرف منك»، وأخدت تعدد مواطن الشرف والعزة للسيدة ليلى بنت المهلهل، مردفةً: «فعمها الملك كليب، وأبوها الزير سالم المهلهل سادة العرب، وزوجها كلثوم بن مالك أفرس العرب، وولدها عمرو بن كلثوم سيد قومه». فاعتمل كيد النساء في رأس أم عمرو بن هند، فأجابتها: « لأجعلنها خادمةً لي»، وأحاكت خدعة لإيقاع، تلك التي تبزُّها عزاً وشرفاً، في المذلة والإهانة. فطلبت من ابنها عمرو بن هند أن يدعو عمرو بن كلثوم وأمه لزيارتهم فكان ذلك. وأثناء الضيافة حاولت أم الملك عمرو بن هند أن تنفذ حيلتها، فأشارت إلى جفنة على الطاولة، وقالت: «يا ليلي.. ناوليني تلك الجفنة»، فأدركت ليلى بينت المهلهل الحيلة بحسها الأنثوي الفطري، وربما أنفة منها وترفعاً وإباءً، وأجابتها: «لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها»، فلمّا ألحّت عليها، صرخت: «وا ذلاه»، فسمعها ابنها عمرو بن كلثوم، وكان جالساً مع عمرو بن هند في مجلس مجاورة، فقام إلى سيف معلق وقتله في دار ملكه، وانتهب رحله وخزائنه وانصرف بالتغالبة إلى خارج الحيرة، ولم يُصب أحدٌ من أصحابه. هكذا كانت ردة فعل عمرو بن كلثوم، دون تردد، ودون تروٍ، ودو سؤالٍ أو تحرٍ، فما هي إلا أن قالت: «وا ذلاه»، حتى نفر الدم في عروقه، وأدرك أن مهانةً أوشكت أن تطاله، وعاراً أوشك أن يصيب أقرب الأقربين إليه، وذلاً سوف يدنس سيرته وسيرة أهله في حياته وبعد موته، فما وجد غير إراقة الدماء سبيلاً لحفظ شرفه الرفيع من الأذى، وحفظ ماء وجهه وسيرته بين الناس. ولم يكتف عمرو بن هند بذلك، بل سجل ذلك شعراً يردده التاريخ حتى يومنا هذا، في معلقته التي لا يُعرف بغيرها كشاعر، متفاخراً بما صنع، ومعتزاً بكرامته وشرفه، وبإبائه، ومنها قوله:

بِأَيِّ مَشِيْئَةٍ عَمْرَو بْنَ هِنْدٍ
تُطِيْعُ بِنَا الوُشَاةَ وَتَزْدَرِيْنَا
وَأَيَّامٍ لَنَا غُرٍّ طِوَالٍ
عَصَيْنَا المَلِكَ فِيهَا أَنْ نَدِيْنَا
إِذَا مَا المَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفاً
أَبَيْنَا أَنْ نُقِرَّ الذُّلَّ فِيْنَا 

.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

بنت الاجواد #شعر

فرحت لـك .. وأنـا معاليقـي حطـام #شعر

العود الأزرق والعبير لـ بن جدلان