( أم حبيبة ) (رضي الله عنها)
رَمْلة بنت أبي سفيان (أم حبيبة) (رضي الله عنها)
إنها ربيبة الجاه والسلطان ، وسليلة العز والشرف ، الرشيدة العاقلة ذات الرأي الحصيف.. فأبوها أبوسفيان الذي كان سيد مكة وزعيم المشركين فيها ، وصاحب كلمتها ، وأخوها معاوية الذي قالت عنه أمه هند: «ثكلته أمّه إن لم يَسُدْ إلا قومه». ولدت سنة 25 قبل الهجرة ، ونشأت في مكة ، وعايشت تنزل الوحي على قلب الصادق الأمين فيها ، وشاهدت موقف أبيها منه ومن رسالته ، لكنها لم تكن إمّعة تتابع أباها على عناده وكفره ، بل أسلمت لله وآمنت برسوله بعد أن شرح الله صدرها للإسلام.
هي أمنا رملة بنت صخر بن حرب بن أمية ، تكنّى بأم حبيبة ، من بنات عم النبي[، تلتقي معه في نسبها إلى عبد مناف بن قصي ، وليس في أزواجه من هي أقرب نسباً إليه منها ، ولا في نسائه من هي أكثر صداقاًً منها ، ولا من تزوج بها وهي نائية الدار أبعد منها. تعرّضها للفتنة.. تعرضت رملة للفتنة مرتين ، وللغربة مرتين ، أولاهما في مكة، فأبوها أبو سفيان لم يكن آنذاك كافراً فحسب ، بل كان رئيس الكفار وزعيمهم في حرب النبي ورأسهم المدبر مع قرنائه من عتاة المشركين كأمثال أبي جهل والوليد بن المغيرة وعتبة بن أبي ربيعة وغيرهم من أصحاب الصولة والجولة ، الذين كانت تجمعهم عداوة النبي ، وتحركهم الأحقاد والعداوات ، ويدعوهم الحسد والبغي إلى الكفر به وجحود نبوته ، وكان من السهل أن تفتن رملة وتنضم إلى أبيها في تلك الحرب الشرسة ، كما فعلت زوجه هند ، لكن رملة لم تجعل لأحد منهم سلطاناً على عقلها وقلبها ودينها إذ آمنت بالله ورسوله ، فكانت بإيمانها غريبة بينهم، وما أقسى أن تعيش غريباً وسط أهلك، لكنها قطعت حبال غربتها تلك بغرية أقسى تهون في سبيل الحفاظ على العقيدة التي تؤمن بها ، فهاجرت مع زوجها عبيدالله ابن جحش الذي أسلم هو الآخر إلى الحبشة في الهجرة الثانية فراراً بدينهما ، فهون عليها زوجها مفارقة الأهل والوطن ، وما أصعب الثبات في زمن الفتنة.
أما الفتنة الثانية ، فقد كادت أن تعصف بها لولا أن منّ الله عليها بالثبات فيها والخروج منها بنجاح ، فبينما كانت رملة في أرض المهجر تقاسي أحزان الغربة وتنازعها أشواق العودة ، وتطمع في إسلام أبيها ، إذا بحدَث يهز كيانها هزاً، فقد ارتدّ زوجها ، وخلا بها شريك هجرتها وأنيس غربتها، وترك دين الإسلام مرتداً على عقبيه، بل وحاول أن يفتنها ويردها عن دينها ، فضاعف ذلك من غربتها، ثم مات مرتداً لتتجرع آلام الوحدة وفجيعة الردة ، ومعاناة الغربة هي وابنتها الصغيرة حبيبة ، وما أقساها من غربة ، لكنها ثبتت على دينها وصبرت على ترك أهلها ووطنها فعوضها الله خيراً ، و« ما ترك عبد شيئاً لله لا يتركه إلا له، إلا عوضه الله منه ما هو خير له في دينه ودنياه »(أبو نعيم، حلية الأولياء). بين الثبات والفتنة.. إن الثبات حال الفتنة أمر ليس بالسهل ، والفتنة تطل برأسها بين الفينة والفينة وتتلون كالحرباء ، وقد كان رسول الله يكثر من قول: « يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك »(رواه الترمذي). قد يصبر المسلم على الفتنة وقد لا يصبر ، قد يتحول بلسانه مُكرَهاً من شدة الأذى لكن القلب ثابت ثبات الجبال الرواسي كما حدث من عمار بن ياسر ، فيما رواه البيهقي أن عمار سبّ النبي وذكر آلهة المشركين بخير ، فشكا ذلك إلى النبي ، فقال: يا رسول الله ، ما تُركت حتى سببتك وذكرت آلهتهم بخير. قال : « كيف تجد قلبك ؟ ». قال: مطمئناً بالإيمان. فقال : « إن عادوا فعد » ، وفي ذلك أنزل الله تعالى:
( ألا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان )
(النحل:106).
وفي حال الفتنة أيضاً يجوز للمسلم أن يأبى كما كان بلال يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل ، حتى أنهم ليضعوا الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمرونه بالشرك بالله فيأبى عليهم وهو يقول: أحَد أحَد ، ويقول: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها. وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول: نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع. فلم يزل يقطعه إرباً إرباً وهو ثابت على ذلك. وأمنا أم حبيبة لم تكن لتفعل ما فعل زوجها فترتدّ ، ولم تهتز فترجع إلى أبيها فتعلن كفرها بلسانها كعمار ، كما أنها لم تكن لتعود إلى مكة فتعرّض نفسها للتعذيب كي تثبت كبلال ، لذا فقد آثرت البقاء غريبة في أرض الحبشة حتى يأتي أمر الله. وجاءها الفرج من الله ، وها هي جائزة الثبات تطرق بابها في أزهى حللها ، وإذا بها لا تصدق أذنيها إذ طرق سمعها تلك الرسالة من نجاشي الحبشة: « إن الملك يقول لك: وكّلي من يزوّجك من نبي العرب ، فقد أرسل إليه ليخطبك منه ! »، فوكّلت خالد بن سعيد بن العاص. ومن بعدها كلمات النجاشي أمام إخوانها من المهاجرين: « إن محمد بن عبدالله كتب لي أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان.. وقد أصدقتها عنه أربعمائة دينار » ، كان ذلك في السنة السابعة للهجرة ، وكان عمرها آنذاك سبعة وثلاثين عاماً.
وقبضت أم حبيبة جائزة الثبات عاجلة لتصير أمّاً للمؤمنين بعد أن أصبحت زوجة لنبي الله ، مع ما ينتظرها من البشارة في الآخرة ، لكن الله تعالى لم يكتب لها أن تلتقي بالنبي الزوج إلا بعد بضع سنين ، فرجعت إليه بعد أن طاب له المقام في المدينة ، وتزامن وقت عودتها مع فتح خيبر ، فكان احتفال المسلمين في المدينة بعودتها هي والمهاجرين من الحبشة وبفتح خيبر معاً. موقف وتعليق.. ولأم المؤمنين رملة موقف يستحق أن نتوقف أمامه طويلاً، ذلك أنه لما قدم أبو سفيان على رسول الله طوَتْ رملة عنه فراش الرسول ، فقد كان أبوها على شركه، فقال: «أي بنية ، والله ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني ؟ قالت: بل هو فراش رسول الله وأنت رجل مشرك نجس ، فلا أحب أن تجلس على فراش رسول الله ». إنه موقف يحسب لها في كفة إيمانها ، فأبو سفيان جاءها ودخل بيتها فجأة يطلب شفاعتها عند زوجها رسول الله لتجديد الهدنة بعد نقض قريش صلح الحديبية ، لم تكن أم حبيبة قد رأت أباها منذ هاجرت ، كان من الممكن أن تقوم فتعتنقه وترحب به ، لكنها في موقف صعب وحساس للغاية ، فها هو عدو الله يقف أمامها وجهاً لوجه ، وها هو مَن قاتل رسول الله سنوات عدة ، وها هو مَن كان سبباً في إخراجها مع غيرها من المسلمين ، إنه يريد أن يجلس على فراش النبي ! فليكن الواقف هو أبوها أو غيره فلن يمسّ هذا الفراش جسد ملوث بدماء إخوانها من المسلمين ، ولن تلمسه يد رفعت السيف في وجه نبي الله وناصبته العداء ، ( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ )
(المجادلة:22).
فهم خاطئ.. لكن بعضنا قد يفهم موقف أم حبيبة من أبيها فهماً خاطئاً، ويحاول أن يُنزله على واقعه وحاله بمثابة النص، ويتخذه مثالاً وحجة لسوء معاملة الوالدين غير المسلمَيْن، أو الوالدين العاصيَيْن، ويحتجّ به على عقوقه، والله تعالى يقول: {$ّإن جّاهّدّاكّ عّلّى» أّن تٍشًرٌكّ بٌي مّا لّيًسّ لّكّ بٌهٌ عٌلًمِ فّلا تٍطٌعًهٍمّا $ّصّاحٌبًهٍمّا فٌي پدٍَنًيّا مّعًرٍوفْا}(لقمان:15). وقد قَدِمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا ضباب وقرظ وسمن وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي [ فأنزل الله تعالى: ( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ 8 )(الممتحنة)، «فأمرها أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها» (رواه أحمد). ولو أنصف هذا الابن وأحسن فهم موقف أم حبيبة لعلم أن أبا سفيان كان حتى ذلك الموقف محارباً لله ورسوله ، وأنه لم يألُ جهده في قتال المسلمين ، وأن عداوته ظاهرة ومعلنة بالقول والفعل والأذى والبطش ، والله تعالى يقول: ( إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)(الممتحنة).
لذا ، فإن ما فعلته أم حبيبة هو ما تدعو إليه الحال في تلك الساعة ، لتضرب لنا أعظم المثل في حب الله ورسوله ، حباً فاق حب النفس والأهل ، وقد كافأها الله تعالى فيما بعد وأقر عينها بإسلام أبيها أبي سفيان ، وزوجه هند. التقية.. النقية.. هذه هي أمّنا أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان ، أم المؤمنين وزوج النبي ، عاشت مع رسولنا تقية نقية ، وروت عنه خمسة وستين حديثاًًًً ، وظلت على العهد من بعده. لما حضرتها الوفاة دعت عائشة رضي الله عنها فقالت: « قد يكون بيننا ما بين الضرائر ، فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك »، فقالت عائشة: « غفر الله لك كل ذلك ، وتجاوز وحلك من ذلك » ، فقالت: « سررتني سَرّك الله » ، وأرسلت إلى أم سلمة فقالت لها مثل ذلك. توفيت رضي الله عنها سنة 44هـ ودفنت بالمدينة المنورة.
إنها ربيبة الجاه والسلطان ، وسليلة العز والشرف ، الرشيدة العاقلة ذات الرأي الحصيف.. فأبوها أبوسفيان الذي كان سيد مكة وزعيم المشركين فيها ، وصاحب كلمتها ، وأخوها معاوية الذي قالت عنه أمه هند: «ثكلته أمّه إن لم يَسُدْ إلا قومه». ولدت سنة 25 قبل الهجرة ، ونشأت في مكة ، وعايشت تنزل الوحي على قلب الصادق الأمين فيها ، وشاهدت موقف أبيها منه ومن رسالته ، لكنها لم تكن إمّعة تتابع أباها على عناده وكفره ، بل أسلمت لله وآمنت برسوله بعد أن شرح الله صدرها للإسلام.
هي أمنا رملة بنت صخر بن حرب بن أمية ، تكنّى بأم حبيبة ، من بنات عم النبي[، تلتقي معه في نسبها إلى عبد مناف بن قصي ، وليس في أزواجه من هي أقرب نسباً إليه منها ، ولا في نسائه من هي أكثر صداقاًً منها ، ولا من تزوج بها وهي نائية الدار أبعد منها. تعرّضها للفتنة.. تعرضت رملة للفتنة مرتين ، وللغربة مرتين ، أولاهما في مكة، فأبوها أبو سفيان لم يكن آنذاك كافراً فحسب ، بل كان رئيس الكفار وزعيمهم في حرب النبي ورأسهم المدبر مع قرنائه من عتاة المشركين كأمثال أبي جهل والوليد بن المغيرة وعتبة بن أبي ربيعة وغيرهم من أصحاب الصولة والجولة ، الذين كانت تجمعهم عداوة النبي ، وتحركهم الأحقاد والعداوات ، ويدعوهم الحسد والبغي إلى الكفر به وجحود نبوته ، وكان من السهل أن تفتن رملة وتنضم إلى أبيها في تلك الحرب الشرسة ، كما فعلت زوجه هند ، لكن رملة لم تجعل لأحد منهم سلطاناً على عقلها وقلبها ودينها إذ آمنت بالله ورسوله ، فكانت بإيمانها غريبة بينهم، وما أقسى أن تعيش غريباً وسط أهلك، لكنها قطعت حبال غربتها تلك بغرية أقسى تهون في سبيل الحفاظ على العقيدة التي تؤمن بها ، فهاجرت مع زوجها عبيدالله ابن جحش الذي أسلم هو الآخر إلى الحبشة في الهجرة الثانية فراراً بدينهما ، فهون عليها زوجها مفارقة الأهل والوطن ، وما أصعب الثبات في زمن الفتنة.
أما الفتنة الثانية ، فقد كادت أن تعصف بها لولا أن منّ الله عليها بالثبات فيها والخروج منها بنجاح ، فبينما كانت رملة في أرض المهجر تقاسي أحزان الغربة وتنازعها أشواق العودة ، وتطمع في إسلام أبيها ، إذا بحدَث يهز كيانها هزاً، فقد ارتدّ زوجها ، وخلا بها شريك هجرتها وأنيس غربتها، وترك دين الإسلام مرتداً على عقبيه، بل وحاول أن يفتنها ويردها عن دينها ، فضاعف ذلك من غربتها، ثم مات مرتداً لتتجرع آلام الوحدة وفجيعة الردة ، ومعاناة الغربة هي وابنتها الصغيرة حبيبة ، وما أقساها من غربة ، لكنها ثبتت على دينها وصبرت على ترك أهلها ووطنها فعوضها الله خيراً ، و« ما ترك عبد شيئاً لله لا يتركه إلا له، إلا عوضه الله منه ما هو خير له في دينه ودنياه »(أبو نعيم، حلية الأولياء). بين الثبات والفتنة.. إن الثبات حال الفتنة أمر ليس بالسهل ، والفتنة تطل برأسها بين الفينة والفينة وتتلون كالحرباء ، وقد كان رسول الله يكثر من قول: « يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك »(رواه الترمذي). قد يصبر المسلم على الفتنة وقد لا يصبر ، قد يتحول بلسانه مُكرَهاً من شدة الأذى لكن القلب ثابت ثبات الجبال الرواسي كما حدث من عمار بن ياسر ، فيما رواه البيهقي أن عمار سبّ النبي وذكر آلهة المشركين بخير ، فشكا ذلك إلى النبي ، فقال: يا رسول الله ، ما تُركت حتى سببتك وذكرت آلهتهم بخير. قال : « كيف تجد قلبك ؟ ». قال: مطمئناً بالإيمان. فقال : « إن عادوا فعد » ، وفي ذلك أنزل الله تعالى:
( ألا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان )
(النحل:106).
وفي حال الفتنة أيضاً يجوز للمسلم أن يأبى كما كان بلال يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل ، حتى أنهم ليضعوا الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمرونه بالشرك بالله فيأبى عليهم وهو يقول: أحَد أحَد ، ويقول: والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها. وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسيلمة الكذاب: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول: نعم. فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع. فلم يزل يقطعه إرباً إرباً وهو ثابت على ذلك. وأمنا أم حبيبة لم تكن لتفعل ما فعل زوجها فترتدّ ، ولم تهتز فترجع إلى أبيها فتعلن كفرها بلسانها كعمار ، كما أنها لم تكن لتعود إلى مكة فتعرّض نفسها للتعذيب كي تثبت كبلال ، لذا فقد آثرت البقاء غريبة في أرض الحبشة حتى يأتي أمر الله. وجاءها الفرج من الله ، وها هي جائزة الثبات تطرق بابها في أزهى حللها ، وإذا بها لا تصدق أذنيها إذ طرق سمعها تلك الرسالة من نجاشي الحبشة: « إن الملك يقول لك: وكّلي من يزوّجك من نبي العرب ، فقد أرسل إليه ليخطبك منه ! »، فوكّلت خالد بن سعيد بن العاص. ومن بعدها كلمات النجاشي أمام إخوانها من المهاجرين: « إن محمد بن عبدالله كتب لي أن أزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان.. وقد أصدقتها عنه أربعمائة دينار » ، كان ذلك في السنة السابعة للهجرة ، وكان عمرها آنذاك سبعة وثلاثين عاماً.
وقبضت أم حبيبة جائزة الثبات عاجلة لتصير أمّاً للمؤمنين بعد أن أصبحت زوجة لنبي الله ، مع ما ينتظرها من البشارة في الآخرة ، لكن الله تعالى لم يكتب لها أن تلتقي بالنبي الزوج إلا بعد بضع سنين ، فرجعت إليه بعد أن طاب له المقام في المدينة ، وتزامن وقت عودتها مع فتح خيبر ، فكان احتفال المسلمين في المدينة بعودتها هي والمهاجرين من الحبشة وبفتح خيبر معاً. موقف وتعليق.. ولأم المؤمنين رملة موقف يستحق أن نتوقف أمامه طويلاً، ذلك أنه لما قدم أبو سفيان على رسول الله طوَتْ رملة عنه فراش الرسول ، فقد كان أبوها على شركه، فقال: «أي بنية ، والله ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني ؟ قالت: بل هو فراش رسول الله وأنت رجل مشرك نجس ، فلا أحب أن تجلس على فراش رسول الله ». إنه موقف يحسب لها في كفة إيمانها ، فأبو سفيان جاءها ودخل بيتها فجأة يطلب شفاعتها عند زوجها رسول الله لتجديد الهدنة بعد نقض قريش صلح الحديبية ، لم تكن أم حبيبة قد رأت أباها منذ هاجرت ، كان من الممكن أن تقوم فتعتنقه وترحب به ، لكنها في موقف صعب وحساس للغاية ، فها هو عدو الله يقف أمامها وجهاً لوجه ، وها هو مَن قاتل رسول الله سنوات عدة ، وها هو مَن كان سبباً في إخراجها مع غيرها من المسلمين ، إنه يريد أن يجلس على فراش النبي ! فليكن الواقف هو أبوها أو غيره فلن يمسّ هذا الفراش جسد ملوث بدماء إخوانها من المسلمين ، ولن تلمسه يد رفعت السيف في وجه نبي الله وناصبته العداء ، ( لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ )
(المجادلة:22).
فهم خاطئ.. لكن بعضنا قد يفهم موقف أم حبيبة من أبيها فهماً خاطئاً، ويحاول أن يُنزله على واقعه وحاله بمثابة النص، ويتخذه مثالاً وحجة لسوء معاملة الوالدين غير المسلمَيْن، أو الوالدين العاصيَيْن، ويحتجّ به على عقوقه، والله تعالى يقول: {$ّإن جّاهّدّاكّ عّلّى» أّن تٍشًرٌكّ بٌي مّا لّيًسّ لّكّ بٌهٌ عٌلًمِ فّلا تٍطٌعًهٍمّا $ّصّاحٌبًهٍمّا فٌي پدٍَنًيّا مّعًرٍوفْا}(لقمان:15). وقد قَدِمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا ضباب وقرظ وسمن وهي مشركة، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها، فسألت عائشة النبي [ فأنزل الله تعالى: ( لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ 8 )(الممتحنة)، «فأمرها أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها» (رواه أحمد). ولو أنصف هذا الابن وأحسن فهم موقف أم حبيبة لعلم أن أبا سفيان كان حتى ذلك الموقف محارباً لله ورسوله ، وأنه لم يألُ جهده في قتال المسلمين ، وأن عداوته ظاهرة ومعلنة بالقول والفعل والأذى والبطش ، والله تعالى يقول: ( إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)(الممتحنة).
لذا ، فإن ما فعلته أم حبيبة هو ما تدعو إليه الحال في تلك الساعة ، لتضرب لنا أعظم المثل في حب الله ورسوله ، حباً فاق حب النفس والأهل ، وقد كافأها الله تعالى فيما بعد وأقر عينها بإسلام أبيها أبي سفيان ، وزوجه هند. التقية.. النقية.. هذه هي أمّنا أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان ، أم المؤمنين وزوج النبي ، عاشت مع رسولنا تقية نقية ، وروت عنه خمسة وستين حديثاًًًً ، وظلت على العهد من بعده. لما حضرتها الوفاة دعت عائشة رضي الله عنها فقالت: « قد يكون بيننا ما بين الضرائر ، فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك »، فقالت عائشة: « غفر الله لك كل ذلك ، وتجاوز وحلك من ذلك » ، فقالت: « سررتني سَرّك الله » ، وأرسلت إلى أم سلمة فقالت لها مثل ذلك. توفيت رضي الله عنها سنة 44هـ ودفنت بالمدينة المنورة.
تعليقات