الأُخُوَّة الإسلامية ولوزامها
لفضيلة الشيخ الدكتور / أسامة بن عبد الله خياط
أمام وخطيب المسجد الحرام
عباد الله:
(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الأنعام: 17]،وقولَه - عز اسمه -:(قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) [الأنعام: 63، 64].
فيستيقِن أنه - سبحانه - المُنجِّي من كل كربٍ ، الكاشفُ كل ضُرٍّ ، المُغيث لكل ملهوف ، فيتوجَّهُ إليه بالدعاء مُتضرِّعًا مُخلصًا خاشعًا خاضعًا مُخبِتًا مُتحرِّيًا أوقات الإجابة ؛ امتثالاً لقوله - عز وجل -:(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60] ، راجيًا أن يُفرِّج كربَه ، ويكشف غمَّه ، ويُذهِبَ همَّه.
ويتوسَّلُ إليه بما كان يتوسَّل إليه به نبيُّه - صلى الله عليه وسلم - من جوامع الدعاء ، كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي في "جامعه" بإسناد حسن عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - إذا كرَبَه أمرٌ يقول: «يا حيُّ يا قيوم ، برحمتك أستغيث».
وكما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بإسنادٍ صحيح عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
« ما
أصاب أحدًا همٌّ ولا حزنٌ فقال: اللهم إني عبدك ، وابنُ عبدك ، وابنُ
أمَتِك ، ناصيتي بيدك ، ماضٍ فيَّ حكمك ، عدلٌ فيَّ قضاؤك ، أسألك بكلِّ
اسمٍ هو لك سمَّيتَ به نفسَك ، أو علَّمتَه أحدًا من خلقك ، أو أنزلتَه في
كتابك ، أو استأثرتَ به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيعَ قلبي ،
ونورَ صدري ، وجلاءَ حزني ، وذهاب همِّي ؛ إلا أذهبَ الله همَّه وأبدلَه
مكانَه فَرَجًا ».وكما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في "مسنده" بإسنادٍ صحيح عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
قيل: يا رسول الله! ألا نتعلَّمها؟ قال: «بلى؛ ينبغي لمن سمِعها أن يتعلَّمها».
ومن ذلك:
دعاء نبي الله يونس - عليه السلام - وهو في بطن الحوت؛ فقد أخرج الحاكم -
رحمه الله - في "مستدركه" عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوة ذي النون إذ دعا وهو في بطن الحوت: (لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ) [الأنبياء: 87]
لم يدعُ بها مسلمٌ في شيءٍ قطّ إلا استجابَ الله له بها» وذلك مصداقًا لقوله - سبحانه -: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ ) [الأنبياء: 88].
ومن أعظم ما يُرجى لتفريج الكُربة ورفع الشدة في العاجلة ، والفوز والنجاة من أهوال يوم القيامة : القيام بحق الله؛بالإيمان به ، والمُسارعة إلى مرضاته ، والإيمان برسوله - صلى الله عليه وسلم - واتباع سنته ، وتحكيم شرعه.ومن ذلك: القيام بحقوق عباد الله ؛ بالإحسان إليهم في كل دروب الإحسان ؛ تأسِّيًا
بهذا النبي الكريم - صلوات الله وسلامه عليه - الذي قالت له أم المؤمنين
خديجة - رضي الله عنها - لما ذكر لها ما وقع له في غار حراء حين جاءه جبريل
- عليه السلام - بالوحي ، قالت: كلا
؛ والله لا يُخزِيك الله أبدًا ، إنك لتصِلُ الرَّحِم ، وتحمِلُ الكلَّ ،
وتقرِي الضيفَ ، وتُكسِبُ المعدومَ ، وتُعينُ على نوائبِ الحق ؛ أخرجه البخاري ومسلم - رحمهما الله - في "صحيحيهما".وفي هذه الإعانة والإكساب للمعدوم تفريجٌ للكَرب عن المكروب ، ورفع كابوس المحنةِ عن كاهله ، وقال - عليه الصلاة والسلام - في الحثِّ على اصطناع المعروف: «صنائعُ المعروف تقِي مصارِعَ السوء والآفات والهلَكَات ، وأهلُ المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة »؛ أخرجه الحاكم في "مستدركه" بإسنادٍ صحيحٍ.
وفي هذا الإحسان أيضًا قيامٌ بحقِّ الأُخُوَّة في الدين التي ذكرها الله تعالى بقوله:إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات: 10]،وبقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ[التوبة: 71]، وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: «مثلُ المؤمنين في توادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم مثَلُ الجسد؛ إذا اشتكَى منه عضوٌ تداعَى له سائرُ الجسد بالسهَر والحُمَّى»؛ أخرجه مسلم في "صحيحه" من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه -.
وهذا
تعبيرٌ غنيُّ الدلالة على أن من مُقتضيات هذه الأُخُوَّة الإيمانية: تفريجَ
الكربة عن المسلم ، والوقوف معه في مِحنَته ، وإعانته على بلائه رجاء ما
ورد في ثواب ذلك من الموعود والجزاء الضافي والأجر الكريم الذي جاء بيانُه
في الحديث الذي أخرجه الشيخان في "صحيحيهما" - واللفظ للبخاري - عن عبد
الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «المسلمُ
أخو المسلم ؛ لا يظلِمُه ، ولا يُسلِمه ، من كان في حاجة أخيه كان الله في
حاجته ، ومن فرَّج عن مسلمٍ كُربةً فرَّجَ الله عنه كُربةً من كُرُبات يوم
القيامة ، ومن ستَر مسلمًا سترَه الله يوم القيامة». وزاد في لفظ مسلم: «ومن يسَّر على مُعسِرٍ في الدنيا يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبدُ في عون أخيه».وفي هذا الحديث - كما قال أهل العلم - إشارةٌ إلى أن الجزاء من جنس العمل ؛ فجزاءُ التفريج في الدنيا تفريجٌ في الآخرة ، ولا مُساواة - يا عباد الله - بين كُرَب الدنيا وكُرب يوم القيامة ؛ فإن شدائد الآخرة وأهوالها جسيمةٌ عظيمة ، فكان ادِّخارُ الله تعالى جزاء تفريج الكُرَب الدنيوية ليُفرِّجَ بها عن عباده كُرُباتهم يوم القيامة حين يكون الإنسان أحوجَ ما يكون إلى فضل الله ورحمته ، وإنما يرحمُ الله من عباده الرُّحَماء. فاتقوا الله - عباد الله - ، واعملوا على القيام بحقوق الأُخوَّة في الدين ؛ بالوقوف من الإخوة عند الكُرَب ونزول الشدائد بساحتهم ، وتجهُّم الزمان لهم ، وإعانتهم بما ينفعهم ولا يضرُّكم مما أنعم الله به عليكم من نِعَمه العِظَام ؛ لتحظَوا برضوان ربكم....
أما بعد ، فيا عباد الله:
قال بعض أهل العلم بالحديث تعليقًا على قوله - صلى الله عليه وسلم -: « ومن فرَّجَ عن مسلمٍ كُربةً فرَّجَ الله عنه بها كُربةً من كُرَب يوم القيامة »:
"فيه عظيمُ فضل قضاء حوائج المسلمين ونفعهم بما تيسَّر من علمٍ ، أو جاهٍ ، أو إشارةٍ ، أو نُصحٍ ، أو دلالةٍ على خير ، أو إعانةٍ بنفسه ، أو سَفارته ووساطَته ، أو شفاعته ، أو دعائه بظهر الغيب".
ومثلُ هذا في الاحتفاظ بحقوق المسلمين وكفِّ الشرِّ عنهم قولُه - صلى الله عليه وسلم -:« لا تَحاسَدوا ، ولا تباغَضوا ، ولا تَدابَروا ، ولا يبِعْ بعضُكم على بعضٍ ، وكونوا عباد الله إخوانًا ، المسلمُ أخو المسلم ؛ لا يظلِمُه ، ولا يخذُلُه ، ولا يحقِرُه ، التقوى ها هنا - وأشار إلى صدره ثلاث مراتٍ - ، بحسب امرئٍ من الشرِّ أن يحقِرَ أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرامٌ ؛ دمُه ومالُه وعِرضُه ».
تعليقات